فإذا ما انتقلنا إلى الضرب الثانی من ضروب المجاز اللغوی وهو المجاز المرسل، وأردنا أن نطلع على بعض خصائص وأسرار هذا الضرب من الکلام، لوجدنا أنفسنا أمام فن لا یقل تأثیرًا عن سابقه؛ ذلک أن من خصائص هذا الضرب من فنون القول
1) الإیجاز، فأنت عندما تقول: رعینا الغیث، هذا أوجز من قولک: رعینا النبات الذی کان الغیث سببًا فی نموه واخضراره، فقد طویت المسبب وذکرت فی موضعه السبب، وکذلک فی قول الله تعالى: {وَیُنَزِّلُ لَکُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا} (غافر: 13) أی: ینزل الماء الذی یتسبب فی إیجاد الرزق.
2) الأمر الثانی من مزایا المجاز المرسل: المبالغة کما تجد ذلک فی قول الله تعالى: {جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِی آذَانِهِمْ} (نوح: 7) فقد ذکرت الأصابع فی موضع الأنامل؛ مبالغة فی تعطیل أسماعهم لشدة عتوهم ونفورهم وإعراضهم عن الحق.
3) الأمر الثالث: أن المجاز المرسل یفسح مجال التعبیر أمام الأدیب أو المتکلم، فعن طریق المجاز یستطیع أن یتخیر الألفاظ الملائمة للقافیة أو الفاصلة، وأن یتجنب الألفاظ التی تخل بفصاحة الکلام فیترک الحقائق ویستعمل المجازات حتى یسلم تعبیره مما یخل بفصاحته، ومما یصوب من قوافی شعره.
4) الأمر الرابع: أن المجاز المرسل یعین المتکلم على تحقیق ما یهدف إلیه من أغراض کالتعظیم والتحقیر والتهویل وغیر ذلک. تقول مثلًا: رأیت العالم، تقصد رأیت طالب العلم الذی سیصیر عالمًا، فأنت بذلک تعظمه وترفع من شأنه، وتقول أیضًا: انظر إلى الجیفة کیف یطغى ویتکبر؟ وأنت ترید مَن سیموت فیصبح جیفة منتنة باعتبار ما سیکون، فأنت بهذا تحقره وتضع من شأنه. من ذلک أیضًا قوله تعالى: {یَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِی آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ} (البقرة: 19) فقد أفادت الآیة شدة الهول والرعب والخوف الذی انتابهم، والذی من أجله حاولوا إخفاء أسماعهم بأقصى ما یستطیعون.
5) الأمر الخامس من مزایا المجاز المرسل: أن المجاز المرسل لا یخلو من خیال یعرض للسامع عندما تمر بذهنه المعانی الحقیقیة لتلک الألفاظ، التی سرعان ما تتلاشى أمام المعانی المجازیة المقصودة، هذا الخیال یحقق الجمال وإمتاع النفس التی ترى النبات والرزق بمختلف صنوفه یتدفق من السماء، وترى أسنِمة الآبالی یسعى بها السحاب، وهذا یأکل دمًا ویمضغه بأسنانه، وذاک یأکل نارًا فتکوى بها أحشاؤه.
هذه الصور تخطر فی النفس فور سماع جملها، وهی وإن کانت تزول سریعًا أمام المعنى المراد بنصب القرینة إلا أنه بخطورها یتحقق إمتاع النفس وإثارة الذهن، فتقع المعانی فی النفس موقعها، إلى غیر ذلک من الأغراض البلاغیة والأسرار واللطائف التی تکمن وراء أسالیب المجاز المرسل.
وتعال معی لتتأمل ما جاء فی قول الله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَیْکُمْ فَاعْتَدُوا عَلَیْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَیْکُمْ}(البقرة: 194) وقوله: {فَاعْتَدُوا عَلَیْهِ} أی: جازوه على اعتدائه، ولکنه عبر عن المجازاة بالاعتداء؛ لأنه سببها، وقد سوغت هذه السببیة أن تقیم الاعتداء مقامَ ما یترتب علیه وتنیبه عنها فی الدلالة، ووراء هذا المجاز إبراز لقوة
السببیة بین الاعتداء وجزائه، وأنه -أعنی: الجزاء - یجب أن یکون نتیجة ومحصلة لازمة للاعتداء، فهو لا یتخلف عنه، وکأن هذه الفاء أیضًا مشعرة بسرعة المکافحة وضرورة الترتب.
ولیس هذا الذی أشیر إلیه متناقضًا مع الدعوة إلى العفو والحث علیه؛ لأن المقام فی الآیة الکریمة لیس مقام تسامح؛ لأنه یحدد الموقف بین المسلمی1ن وغیر المسلمین، وعندئذ لا عفو ولا تسامح حتى تظهر الشوکة والغلبة.
وانظر إلى الآیة التی تشرع القصاص بین المسلمین وتحدد الصورة التی ینبغی أن تکون علیها علاقاتهم فی هذا الشأن: {یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا کُتِبَ عَلَیْکُمُ الْقِصَاصُ فِی الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِیَ لَهُ مِنْ أَخِیهِ شَیْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَیْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِکَ تَخْفِیفٌ مِنْ رَبِّکُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِکَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِیمٌ * وَلَکُمْ فِی الْقِصَاصِ حَیَاةٌ یَا أُولِی الْأَلْبَابِ لَعَلَّکُمْ تَتَّقُونَ} (البقرة: 178، 179) تجد الترغیب فی العفو والتسامح یشیع فی التعبیر. انظر إلى قوله: {فَمَنْ عُفِیَ لَهُ مِنْ أَخِیهِ شَیْءٌ} ومعناه: فمن عفی له عن جنایته. انظر إلى کلمة: {أَخِیهِ} وما تفیض به فی هذا السیاق، وکیف أشارت إلى أن رابطة الأخوة قائمة بین المسلم والمسلم وإن کانت بینهما تارات وإِحن، وأن القرآن یذکر وَلی الدم بهذه الأخوة التی تربطه بالجانی؛ لیرغبه فی العفو، وقوله: {فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} وصیة لولی الدم إذا قبل الدیةَ أن یتبع الجانی بالمعروف ولا یعنِّف به فی المطالبة.
ثم انظر إلى سیاق الآیة التی نحن فیها: {وَقَاتِلُوا فِی سَبِیلِ اللَّهِ الَّذِینَ یُقَاتِلُونَکُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا یُحِبُّ الْمُعْتَدِینَ * وَاقْتُلُوهُمْ حَیْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَیْثُ أَخْرَجُوکُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى یُقَاتِلُوکُمْ فِیهِ فَإِنْ قَاتَلُوکُمْ فَاقْتُلُوهُمْ کَذَلِکَ جَزَاءُ الْکَافِرِینَ * فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِیمٌ * وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى
لَا تَکُونَ فِتْنَةٌ وَیَکُونَ الدِّینُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِینَ * الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَیْکُمْ فَاعْتَدُوا عَلَیْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَیْکُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِینَ} (البقرة: 190 - 194) قالوا: إنها أول آیة نزلت فی القتال، وقد بدأت بالأمر بقتال مَن قاتلهم، والنهی عن الاعتداء والتنفیر منه، فإن الله لا یحب المعتدین.
وتظهر فی هذا السیاق روح القوة والتمکن التی یجب أن تکون علیها هذه الأمة التی تحمل رسالة الله فی أرضه، ولکنها قوة لا تتخطى حدود العدل، ولا تجافی روح الإنسانیة، وإنما تخضع لها أحسن ما یکون الخضوع، وتلتزم بها أدق ما یکون الالتزام. تأمل قوله: {وَاقْتُلُوهُمْ حَیْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} أی: حیث وجدتموهم؛ لأن الثقف وجود على وجه الغلبة والقوة، أی: حیث وجدتموهم قادرین علیهم، متمکنین منهم، وکأن الآیة تشیر إلى ضرورة أن یکون المسلمون دائمًا فی حالة قوة وتمکن وغلبة، فإذا لقوا أعداءَهم کان لقاؤهم ثقفًا أی: وجودًا على وجه التمکن. ثم انظر إلى قوله بعد الأمر بالجزاء: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِینَ} وفی الأمر بالتقوى أمر بالتضحیة والبسالة والرغبة فیما عند الله عند لقاء العدو، وقوله: {مَعَ الْمُتَّقِینَ} أی: معهم فی جهادهم وکائن فی صفوفهم.
ثم تأمل قوله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّکُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِینَ مِنْکُمْ وَالصَّابِرِینَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَکُمْ} (محمد: 31) قد أراد سبحانه: ونعرف أخبارکم، ولکنه عبر بالابتلاء الذی هو سبب المعرفة؛ لأن الابتلاء یتبعه موقف جدید، إما زیادة تأصیل الإیمان بالله والتمسک الشدید بمبادئ الدین الحنیف، أو الخذلان والتحلل وانهیار الإیمان وضیاع العقیدة.
وبعد ظهور هذا الموقف وانکشاف حقیقة المبتلى یصبح علم الله متعلقًا بالمعلوم الواقع، والمولى -عز وجل- علیم بکل شیء ولا یحتاج فی علمه إلى ابتلاء.کثر فی القرآن هذا المجاز المسمى بالمجاز المرسل المبنی على علاقة المسببیة بصورة أوسع من غیرها، کما فی قوله تعالى: {وَیُنَزِّلُ لَکُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا} (غافر: 13) قد عبر عن المطر بالرزق، فأشار إلى قوة السببیة بین المطر والرزق، وأهمیة المطر وأنه مصدر الحیاة، وفیه أن الرزق ینزل بقدر الله وفعله سبحانه، فلیمضِ المسلم إذن على طریقة الخیر التی رسمها له القرآن، وهو موقن أن الرزق مصدره السماء، فلا تتبدد طاقاته فی الإلحاح وراء المطامع، وإنما تترکز هذه الطاقات فی العمل الصالح، أعنی: الذی تصلح به حیاة الجماعة المسلمة.
وتجد القرآن یبرز هذه الناحیة فی کثیر من عباراته کما یحتویها فی خفاء ودقة فی کثیر من صیاغاته وأحوال تراکیبه؛ لیعمق هذا المعنى فی قلب المسلم ویطرد من أفقه مشاعر الأثرة والأنانیة.
ومما یذکره البلاغیون فی هذه العلاقة
-علاقة المسببیة- قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِینَ یَأْکُلُونَ أَمْوَالَ الْیَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا یَأْکُلُونَ فِی بُطُونِهِمْ نَارًا} (النساء: 10) والذین یأکلون أموال الیتامى لا یأکلون نارًا على الحقیقة، وإنما یأکلون أموال الیتامى، ولما کان ذلک مؤدیًا إلى النار حتمًا وسببًا فی عذابها قطعًا عبر عنه به. وفیه مع إبراز هذه السببیة وتقویتها تفظیع وتنفیر تراه فی هذه الصورة: {یَأْکُلُونَ فِی بُطُونِهِمْ نَارًا} فالقوم یقذفون النار فی أفواههم، فتندلع فی بطونهم، ولو قال سبحانه: إنما یأکلون حرامًا، لکان شیئًا آخرَ، مع أن المآل إلیه، کما أنه لو قال: إنما یأکلون نارًا، لذهب من الصورة جزء کبیر فیه فظاعة وشناعة؛ لأن کلمة البطون مع أنها مفهومة ضرورة من کلمة الأکل، إلا أن فی النص علیها مزید تشخیص وتوضیح. وتجد فی کلمة: {إِنَّمَا} ذات الدلالة المعروفة همسًا خافتًا، یقول: إن هذه قضیة مسلَّمة وبدیهة ظاهرة، لا ینبغی أن یحتفل فی عرضها، ولا أن تؤکد فی سیاقها.بمثل هذا یکون التدبر، وتجنَى الفائدة والثمرة من وراء مدارسة فنون البلاغة.
______________________________________________________________________
الکتاب: البلاغة 1 - البیان والبدیع، المؤلف: مناهج جامعة المدینة العالمیة،الناشر: جامعة المدینة العالمیة